الإعلام البديل
لا شك أن المؤسسات الرسمية- السلطة- في الخليج العربي، تتحكم في الإعلام كافة، المرئي والمقروء والمسموع، من رسم سياسة التحرير إلى التعيين والترقية، وهذا ما أدى تراكمه منذ عقود ثلاثة خلت، إلى إيجاد طبقات “إعلامية” شرسة جدًا ضد أي انتقاد لعمل السلطة، أو أي انتقاد لشخص الحاكم نفسه، وليّنة جدًا حدّ “العصر” أمام أيّ مديح للسلطة!. هذه الطبقات، مهما أرادت الذهاب باتجاه تغييرها ولو بتأثير خارجيّ، فسوف يكون البديل من حيث الإسم “جاهزًا”، ولكنه سيكون شبيهًا من حيث العمل بسلفه. وهو أمر يتمحور أساسه لا في سياسة صناعة الرأي، بل في تجنيد “كوادر الرأي” نفسه، حتى لا يختلفوا عن غيرهم في أي مؤسسة أمنية أو عسكرية، بل وحتى تعليمية!
لا أحد ينكر مطلقًا دور مواقع الإعلام الاجتماعي مثل: الفيس بوك والتويتر واليوتيوب وكذلك المدوّنات والمنتديات الحوارية العامة، في خلق مناخ “إعلامي” جديد، مزيج من العمل الصحفي المقروء والمرئي، فتارة تقرأ مقالًا ينتقد سياسة حكومة ما أو حاكم ما، لن تتوفر له فرصة النشر في أي صحيفة محلية، حتى وإن كانت خاصة، وتارة تشاهد مقطعًا تصويريًا لــ شاب أو فتاة، ينتقد السلطة، على اليوتيوب، بالتأكيد لن تتاح له الفرصة للظهور في أي قناة، حتى وإن كانت خاصة، طالما تتبع وتذعن لسياسة الحكومة!
ولطالما كانت التهمة الجاهزة والمعلبة للسلطة تجاه أي معارض لسياساتها، وأحيانًا لنظامها- لا تقبل الحكومات الخليجية عادة أيّ نقد لمؤسساتها- أنه عميل وينفذ أجندات خارجية، خاصة إذا ما أتيحت لهذا المعارض فرصة الظهور على قنوات إعلامية خارجية، يسهل التعامل مع الأمر وكأن هذا الشخص هو دسيسة مخابرات أجنبية لبث الفوضى وإيقاظ الفتنة. لكن مواقع التواصل الاجتماعي قلبت الطاولة رأسًا على عقب على الإعلام التقليدي، وأظهر للمجتمعات أسماء ما كانت لتُعرف أو تشتهر لولا هذه المواقع. وما زال العديد من الناشطين في الخليج العربي، في مجالات عدّة كالحقوق والسياسة والمجتمع، يبرزون القضايا التي لطالما عملت الأنظمة على إخفائها عن العامة، أو إيصالها للعامة بفكرة غير الفكرة الحقيقية، بل وذهبت العديد من الصحف العالمية إلى اعتماد صفحات عامة أو شخصية في الفيس بوك أو تويتر، كمصادر لأخبارها، حيث باتت العبارة الرائجة اليوم في العديد من الصحف والقنوات الفضائية: وصرّح عبر صفحته/حسابه الرسميّ.
الملاحظ اليوم كذلك؛ تزايد تجنيد أفراد من المجتمع، أو من المؤسسات الأمنية التابعة للسلطة، ولكن الأكثر قوّة وتأثيرًا، هم الأفراد العاديون من المجتمع، الذين عادة ما يظهرون بأسماء ومعرفات حقيقية، ويعارضون فكرة معارضة أيّ نظام أو أي أداء لأي حكومة حتى وإن كان خاطئًا، وعادة ما يتبعون سياستي: القمع والتشهير، وهم سواء أكانوا يفعلون ذلك بتوجيه مباشر أو غير مباشر أو رغبة خالصة منهم في تقديم عونهم للأنظمة، التي يفضلونها سواء حفظًا لمصالح معينة، أو استجابة لفزاعة الأمن والأمان والفِتَن التي تتعلل بها عادة الأنظمة المستبدة في مواجهة أي معارضة لها، إلا أنهم يقدمون خدمة جليلة وكبيرة للأنظمة، في تشويه الفكرة الأساسية لوجود أي انتقاد أو معارضة للحكومات، وإيصال هذه الفكرة منقوصة أو مجزوءة، تركيبها الأغلب أنها ضد العادات والقيم والدين!
وما أدى إلى تأزم تعامل السلطات مع هذه الظاهرة الجديدة من الإعلام، هو تشكّل ما يشبه المؤسسات البديلة، فالنشر والنقد عبر وسائل الاعلام الاجتماعي شكّل مؤسسات إعلامية بديلة، ونشاط الحقوقيين ورصد الانتهاكات في مجالات عدّة؛ شكّل مؤسسة حقوقية موازية للجان أو المؤسسات الحقوقية التابعة للحكومة، والسياسيين الذين برزوا كباحثين أكاديميين أو ناشطين، وقدموا أراء وأفكارًا وحلولًا وبدائل للرأي العام، لصورة النظام السياسي وتوزيع السلطة وآلية تداولها والدستور…إلخ، قدموا مؤسسة بديلة من الناحية “التطبيقية” المفترضة التي يجب عليها أن تكون في العمل السياسي العام، وهو ما أحرج فعلًا الأنظمة السياسية، وفضح وسائلها القمعية التي تبررها أو تغطيها عادة باسم الحكومة.
مما لا شك فيه، أن الخطأ لا يختلف عليه اثنان، ومهما حاولت الأنظمة تبريره بمصطلحات هدفها مخاطبة عواطف العامّة، مثل: لسنا ملائكة، الخطأ وارد، لسنا أحسن من غيرنا.. إلخ، إلا أن ظهور هذا الخطأ على الملأ يعطي ميزة أساسية لمواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسات البديلة التي صاحبتها، في خلق الفرص لكافة أفراد المجتمعات، الذين أتيحت لهم فرصة الاشتراك والتفاعل في هذه المواقع، على الاطلاع ما لم يكن ميسرًا لهم الاطلاع عليه سابقًا، حتى كاد أن يصبح المحظور أمرًا عاديًّا. وهنا يكمن دور ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي في هذا الجانب، سواء أكانوا سياسيين أم حقوقيين أم قانونيين…إلخ، فتنظيم العمل وتسليط الضوء مع تقديم الحلول وبرامج العمل، أفضل بكثير من الاكتفاء بالنقد واللوم دون تقديم الحلول، وهذا لا يعني بضرورة طرح أنفسهم كبديل، أي حصر الحلول في الناحية الجسدية والشخصية، بل الاكتفاء بتقديم الحلول كجانب عملي، سواء كفكرة عمل، أو كمنفذين أشخاص لها عبر اقتراح أسماء أو مواصفات لأشخاص. والقوانين الجديدة، التي بدأت الأنظمة الخليجية وبعض العربية، في تنفيذها وتطبيقها في حق المواطنين، مثل: الإعابة أو إهانة الذات، والنيل من هيبة الدولة، والإرهاب، والإخلال بنظام الأمن العام، ما هي إلى وسائل تمثل التطوّر القانوني في مواجهة مواقع التواصل الاجتماعي، وهو للأسف يعطي صورة واضحة حول استغلال السلطة لمؤسساتها الأمنية وحتى القضائية، من أجل القضاء على أيّ ظاهرة تعكّر على هذه السلطات عملها، أو بالأحرى فسادها وطغيانها.
الإعلام البديل والمؤسسات البديلة، أثبتت وجودها وفعاليتها، ووقودها الذي تستعين به على استمرارها هو الظلم والفساد والاستبداد الواقع على المجتمعات، فمهما حاولت أغلبية المجتمعات التي عادة ما تكون مؤيدة للأنظمة، تقديم هذه البدائل وناشطيها على أنه فئة مغمورة ذات مصالح وأجندات، إلا أن الظلم والفساد يعمل كل يوم على كشف ثغرات الأنظمة، في القضاء وفي القانون وفي الإعلام وفي غيرها من المؤسسات الرسمية التابعة للسلطة. ومثلما ثبت عدم قدرة السلطات على التعامل معها أو منعها، كذلك ثبت يقينًا عجز الناشطين فيها عن تنظيم أفكارهم وصفوفهم، وظهور أغلب الأفكار كمبادرات فكرية مما يسهم بسرعة نسيانها أو تجاهلها، بالتالي أصبح من الضروري اليوم تنظيم العمل فيها، وتقديم البرامج والحلول، فما يتم الاستهانة به اليوم، يتم الالتفات إليه غدًا، خاصة في ظل استمرار ظلم وفساد واستبدادية الأنظمة، واستمرار تقديم هذه الأفكار كجملة عمل جماعي، وليس مجرد فكرة أو أفكار فرد.